محاضرات في الأدب الجزائري.

المناخ الثقافي والأدبي:

      لم يكن عامل الصحافـة حكرا على الساحة السياسية وحسب، وإنما يعتبر كذلك مسرح الأحداث الثقافية والأدبية التي واكبت الحركة الوطنية، ولا غرابة في أن المناخ الثقافي لم يكن أحسن حالا مما هو عليه المجتمع الجزائري، الذي لا يزال يرزح تحت نير الاستعمار وظلمات القهر ، ولا بأس أن نعرض بشكل من الإيجاز- لأهم الأجواء الثقافية في الجزائر على عهد الاحتلال.

- الواقع الثقافي:

و لأن الثقافة ما هي إلا نتيجة للسياسة الاستعمارية الرامية إلى بناء صرح ثقافي يضمن بقاء المستعمر، أطول مدة زمنية ممكنة، ولذلك وجب عليه أن يقف حازما صارما أمام كل محاولة من شأنها تثقيف الجزائريين بما يتنافى وما يصبو إليه الاحتلال، فقد منع المدارس وأغلق الزوايا وحول معظم المساجد إلى كنائس .

      فأما المدارس فأنشـأ بـدلا منهـا مدارسه الخاصـة، ينفـق عليهـا المحتـل، تسمـح بتعلـم الجزائرييـن فيهـا، ولكـن على المقـاس الفرنسـي، فاللغـة التي يدرسـون بهـا هي الفرنسيـة ولا وجـود للعربيـة إطلاقـا، لأنـه من الخطـورة بمكـان تعليمهـا، وكـان من خريجـي المـدارس الخاصـة نخبـة حملـت الثقافـة الفرنسيـة ومثلتهـا أحسـن تمثيـل، ونذكـر منهـم (فرحـات عبـاس) وهـذه النخبـة تعكـس بحـق مرامـي الاستعمـار وأهدافـه من خـلال مبادئهـا وطريقة نضالهـا. أمـا الزوايـا، ونظـرا لإشعاعهـا الدينـي الذي يأبـى الضيـم ويحـث على الجهـاد، فكـان الخـلاص منهـا بإغلاقهـا، وفي أحسـن الأحـوال جعلهـا مركـزا لنشـر الخرافـات والأباطيـل، مـن قبيـل مشعوذيـن أغراهـم المستعمـر بهـذا العمـل مقابـل أن يضمـن لهم الحيـاة في ظـروف حسنـة، حسـب زعمه، وبنظـرة خاطفـة على هذه المراكـز الإشعاعيـة الدينيـة، نستشـف مدى خطورتها على الوجـود الاستعمـاري في البلـدان الإسلاميـة والذي ينظـر إليـه على انـه كافـر يجـب أن يجاهـد... لذلـك عمـل المحتـل المستحيـل لإزالتهـا من طريقـه.  

      لقد فتحت فرنسا أمام الجزائريين مجالا على مستوى متدن للتأقلم الثقافي مع الغرب1،  تمثل في إرسال طلبتها الذين تخرجوا من المدارس الخاصة، ليكملوا تعليمهم بفرنسا، ولا يسمح بذلك خارج الحدود الفرنسية، كما عمل المستعمر ما في وسعه على إبادة اللغة العربية، لأنها شرارة الخطر، ولأنها لغة الدين كما إنها لغة العامة من الناس، وان القضاء عليها هو حتما القضاء على رابطة الدين بين الجزائريين وإخوانهم المسلمين والعرب قاطبة. وبذلك يصبح من اليسير فصل هذا العضو الحساس(الجزائر) عن الجسم ككل(الأمة الإسلامية)، ثم إن إهمال اللغة العربية قد دعا لغات أخرى كالبربرية والإفرنجية إلى مزاحمتها، إما في المعاهد والثانويات، كانت اللغة العربية تدرس على أنها لغة أجنبية أو لغة ثانوية، كما برز جليا جهل الجزائريين للغة العربية الفصحى، تمثل ذلك في قلة إقبالهم على ما هو مكتوب بالفصحى، واحتشادهم الحماسي لما يقال أو يكتب بالعامية. نجح المستعمر في كسب رهان تدمير اللغة العربية، إذ تشير المصادر أن غالبية الجزائريين أصبحوا يتكلمون الفرنسية، ومنهم من يكتب بها، في حين لا تجد إلا قلة قليلة تتقن اللغة العربية. اللهـم أولئـك الأئمة الذين تخرجوا من الزوايـا قبل أن تدنسهـا أقـدام الغـزاة، أو منهـم من تشـرب بثقافـة المشـرق العربـي، ونهـل اللغـة العربيـة من مصادرهـا من غيـر كدـر، كابن باديـس والإبراهيمـي.. إن تصميـم الاستعمـار على محـو آثـار اللغـة العربيـة، جعلـه يهتـدي إلى أخطـر وسيلـة يمكنـه بفضلهـا تحقيـق غرضيـن؛ أولهمـا بالطبـع طمس العربية، وثانيهما التفرقة بين الجزائريين، ونحن نقصد بهذه الوسيلة الخطيرة، أن المستعمر عمل على تقوية اللغة البربرية على حساب اللغة العربية، ولا يفوتنا أن نذكر أن اللغة البربرية إنما هي لهجة قبائلية يكثر انتشارها في جبال الأوراس، والقبائل الكبرى على ذلك العهد ، وأن وجودها بالمدن شبه منعدم، إذ اغتنم المستعمر فرصة بعد هذه المناطق، فشجع على تعليمها في المدارس والزوايا والمساجد التي خصصها لهذا الغرض، والهدف الجوهري لهذا العمل إنما هو ضرب الإسلام في الصميم، لأنه الرابط المتين بين العرب والبربر في الجزائر هذا الرابط القائم على العدل والمساواة. لذلك أوكل مهمة التعليم للآباء والراهبات، وقد بدأت أولـى محـاولات التعليـم هذه في بـلاد القبائـل ما بين(1873/1880)1.

      وهي الفرصـة المواتيـة لتمريـر مشـروع المسيحيـة، الذي كـان يبحـث عنـه المستعمـر وبالدرجـة الأولـى المبشـرون، هـؤلاء كان مطمحهـم أن يجعلـوا من الجزائـر حصنـا منيعـا  للمسيحيـة، وخليـة اتصـال بين روافـد البحـر الأبيـض المتوسـط، ومنها يسهل انتشار المسيحية في إفريقيا كلها، هذه المحاولات وان كانت حازت نوعا من النجـاح، إلا إن الجزائريين تفطنوا لها، فرفضوها وانبرى العلماء للدفاع عن العروبة والإسلام. حيـث يقـول الشيـخ البشيـر الإبراهيمـي، عن محاولـة تقويـة اللغـة البربريـة في الجزائـر: ״ما هذه النغمـة السمجـة التي ارتفعت قبل سنين في راديو الجزائر بإذاعـة الأغانـي القبائليـة وإذاعـة الأخبـار باللسـان القبائلـي، إن القبائـل مسلمـون عرب، كتابهم القرآن يقرؤونه بالعربية ولا يرضون بدينهم ولا بلغته بديلا״1. ومن الواضح أن المحتل عمد إلى تثقيف الجزائريين ثقافة فرنسية، وتلك إنما هي من وسائل القمع والمسخ والفسخ، ترمي إلى سلخ أصول الجزائريين، وفصلهم عن الأمة العربية.

لم يكتـف المحتـل بالمجـال الثقافـي، إنمـا امتـد إلى روافده ولعـل حصـر الأدب ومنـع الإنتـاج الأدبـي من الصـدور وقمـع الأدبـاء كفيلة بتوضيـح سياسـة الغطرسـة الاستعماريـة وتحديـد أهـداف ومطامـع المحتل.

     ولأن مجـال الأدب واسـع، أضـف إلى ذلك أنه مجـال دراستنـا المتواضعـة، نحـاول في هـذا العنصـر أن نسهـب قليـلا لتوضيـح مـدى أهميـة الأدب في التوعيـة والإرشـاد.

 - الواقـع الأدبـي:

״إن أدب الحرب أدب المعركـة، لا فـرق- كان موجـودا منذ بـدأت الحروب والمعارك  وإلى أن تـزول، فالحـرب تابعـة للسياسـة بوسائـل أخرى، والسياسة لا تنفصل عن الثقافـة، وهذه جماع التجربـة الذهنية للإنسانية״1.

فالسياسة القمعيـة للاستعمار والتي بنيت على الظلم والاضطهاد، جعلت من الثقافة الجزائرية مهلهلـة لما عانته من مضايقات مزاحمة ومحاولات لطمسها. وباعتبـار الأدب رافـدا من روافـد الثقافـة، والأكثـر احتكاكـا بالواقـع، فإنه حتمـا سيتأثـر بما تأثـرت به الثقافـة وينعكـس ذلك في النتـاج الأدبي لتلك الفترة.

       ولعـل مهمـة الأدب هي تغييـر صـورة المجتمـع أو الفــرد من الحسـن إلى الأحسـن وفي أقـل الأحـوال التعبيـر عن حاجاتـه - فما بالك إذا كانت الصورة مشوهة؟ إن الأدب يظل يفتقر إلى الوعي بتلك العملية، و إلى ممارستهـا إذا وعاهـا، ويتحـدد النجـاح في الممارسة بفهم الظرف الذي تتم فيه، ففي السلـم يتفرغ الأدباء للفـن، وفي الحـرب يتفرغ الأدب نفسه للحرب2.

       لأن الأدب جزء من الحياة و واجبه أن يعبر عنها، كما أن إيمان الأدباء الجزائريين على عهد الاحتلال- بأن من لا يكون شيئا في عصره، لا يكون شيئا في العصور التي تليه. ولذلك أخلصوا أدبهم للدفاع عن كرامتهم وكرامة أمتهم، مما جعل المستعمر يقف سدا منيعا أمام الأدباء. حيث ضيـق عليهم الخناق، ورماهم بالسلاسل والأغلال، وإن أول معول رفعه المستعمر لتحطيم صرح الأدب الجزائري هو منع الصحف والنشريات من الصدور، لأن الصحف وسيلة لنشـر الأدب الذي يصل من خلالها إلى جمهوره من القراء. كما لم يكن بوسع الأدباء الجزائريين تحمـل أعبـاء المطبعـة، ليخـرج إنتاجهـم في شكـل كتب، فربما وقف العائق المالي أمامهم، أو لأن الوقت الذي يصرفونـه في إخـراج الكتـب، يصرفونـه في متابعـة قضايـا أمتهـم... وقليـل أولئك الذين جعلـوا إنتاجهم في كتاب، منهم (محمد الهادي الزاهري) الذي وضـع كتاب (تراجم الشعراء الجزائريين) سنة 1926. ويقول الزاهـري عمـا اعتوره من أسبـاب وعراقيل: «و لقد تعاورتني رياح أتعاب كثيرة في جمع هذا الكتاب، حتى أوشكت أن أغادر الأمر، وأعدم الصبـر، وماذا عساك تجـد من الإسعـاف في أمة أدباؤها معدمون، وأغنياؤها إلا القليل منهم- جاهلون، لا تسمع لهم في الصالحات ركزا، مع ما للاستعمار من توغل وللجهل من تأصـل»1.

       والحـق أن الأدب الجزائـري، قد أصيـب بركـود شامـل خـلال القرن التاسـع عشر، وخاصة الشعـر؛ حيث ״لا نكـاد نعثـر في السبعيـن سنة الأولى للاحتلال إلا على أدب هزيـل ركيـك في جانبيـه المضموني والشكلي، فهو لا يعرف غير المدائح وقصائد المناسبات ميدانـا له، ويبقى بعيدا عن المجتمع والسياسـة ومعترك الحيـاة״1.

       ويعطي لنا محمد الطمار صورة صادقة عن الأدب الجزائري على عهد الاحتلال حين يقول: ״ إن الأدب لمرآة عصره، عرفناه قـويا على عهد ما كان ملوك الجـزائر أقوياء وعرفناه جميلا على حين كـانت الحياة ناعمة جميلة مطمئنة، أما الآن فهـذه الفتن تشب في جميع أطراف الجزائر.. فكثرت المحن وتألمت الجـزائر. فالأدب هو الآخر أخذ الضعف يدب في مفاصله، وقل رجاله، ولم يبق من الحركـة الفكريـة التي طـالما ازدهـرت قبل هـذه الفتـرة، إلا ذلك البصيـص النـافـذ من بيوتـات عرفت بالعلم من قديـم ״2.

     ما قال هذا الأديب الجزائري، ينطبق على الفتـرة الممتـدة مـا بيـن (1514/1830) وبعبـارة أخـرى؛ الأدب العربـي في الجزائـر في فتـرة الحكم العثمانـي، وقد عرض الأديـب الطمـار محمـد- الأدب الجزائـري مجددا على طاولـة الفحص، في فتـرة الاحتلال الفرنسـي، ولكنه لم يخـرج بنتيجـة تذكر، حيث أقـر هو نفسـه: ״  سررنـا لخروج الأدب من نكسته في القـرن الحادي عشر الهجـري، وتمنينـا أن يسلك طريقـا تـؤدي إلى ما عرفـه من الازدهـار من قبـل، ولكنه، ويا للأسف، رجع إلى نكستـه على الرغـم من أنه ظـل مسيطرا على موقفه مستميتا في حفـظ كيانـه، فلا نستطيـع أن نعثـر على أديب يمثل حقا الحركة الأدبية .

       بعـد وفـاة المقـري، حتى القـرن الثالـث عشـر الهجـري، بـرزت شخصيـة فذة تتمثـل في الأميـر عبـد القـادر״1. كمـا تـرى بعـد مـرور قرنيـن من الزمـن  تقريبـا، عاشـت فيها الجزائـر حلقـة مفرغة من الإنتاج في الحقل الأدبي، هذه الحالة وإن كانت سلبية بالنسبة للجانب الجزائري، تمثلت في العقم الثقافي والندرة في الإنتاج الأدبي، فإنها كانت ايجابيـة بالنسبـة للاستعمـار الذي استطـاع أن يخلـي الساحـة من أي نشـاط ثقافـي أو أدبـي من شأنه زعزعة وجـوده. غير أن الأدب الجزائري-إن وجـد- وبغـض النظـر عن قوتـه أو ضعفـه، رفعتـه أو انحطاطه، كان صورة طبـق الأصـل للحيـاة، والمرآة العاكسة للأوضاع التي يرزح تحتها السواد الأعظم من الجزائريين. ويرى الدكتور أبو القاسـم سعـد الله؛ ״أنه من عوامل بقـاء المستعمـر في الجزائر مدة أطول هو ذلك الفراغ الأدبي الذي كانت تعانيه الجزائر؛ والذي جعل كل شيء صامتا لا ينبس، هادئا لا  يتحـرك، راضيـا لا يتمـرد ، ذلك لأن الأدب الجزائري الحديث، وخصوصـا الشعر، لم يكن منذ ظهوره محدود الهدف، عميـق الصوت، قائـد الخطـوات، وإنمـا ظهـر إلى جانـب النشـاط الوطنـي الآخـر. وسـار معـه دون أن يتقدمـه بخطـوة واحـدة رائـدة...״2 .                          

       والحديـث عن الأدب الجزائري في ظـل الاحتلال الفرنسي، يأخذنـا إلى الحديـث بالدرجة الأولى- عن الأغـراض الأدبيـة الشائعـة يومئـذ، أو بالأحرى التي كانت ذات مقروئية  أو تتصل بالأهداف اتصالا مباشـرا، لا سيما المواضيع ذات الوقع المؤثر كالتي تحرض على الجهاد، وتدعو إلى اليقظة ونبذ الاستعمار. ومن غير اليسير الحديث عن هذه الأنـواع دونمـا التعريـج على تقسيـم مجـال الأدب الجزائري إلى شقيه البارزين (الشعـر-النثـر) ومن ثمـة يمكـن الوقـوف على نقـاط القـوة والتأثيـر فيهمـا معـا أو في أحدهمـا دون الآخـر.

أ‌-       جانــب الشعــر: وممـا لا شك فيه أن الشعر الجزائري كان ظل الحركة الوطنية، إذ واكبهـا منـذ بـدأت، والملاحـظ أنـه كان صادقـا، عكـس الأوضـاع الجزائرية في صورة تدعـو في غالـب الأحيـان إلى الشفقـة، ولعـل ذلك من الأمور المحفـزة على الثـورة والانقلاب لتغيير هذه الأوضاع. ״ ويكفي الشعـر الجزائري أنه احتفـظ بميــزة الصـدق، وأنه كـان صــدى لخلجـات الشعـب وأناتـه، وصوتـا لكفاحـه، منذ استهـل وما يـزال معـه جنبـا إلى جنـب لا يفتر ولا يلتفت إلى الوراء ولا تذهله الصفعات، التي يتلقاها من وقت لآخر من يد غير رحيمة״1.

 ويحسن بنا في هذا المقام أن ننوه بما قدمه الدكتـور أبـو القاسـم سعـد الله إلى الشعـر الجزائـري، حيث قسمـه بحسـب مواكبتـه للأحـداث فيقـول: ״ ولدراسـة ذلك الشعر الشعر الجزائري على عهد الاحتلال- ... بتقسيمه حسـب الفتـرات التي يكثـر فيهـا الاصطـراع الشعبـي، وتتدافـع أثناءهـا الأمـواج الوطنيـة في أشكـال مختلفـة ومن الممكن أن يكون هذا التقسيـم على النحـو التالـي:

شعـر المنابـر:من أواخر القرن الماضي إلى 1925.

شعـر الأجـراس من 1925 إلى 1936.

شعـر البنـاء من 1936 إلى 1945.

شعـر الهـدف من 1945 إلى 1954.

شعر الثورة من 1954 إلى .....״1.                                             

      وليس المقصد من تقسيم هذا الشعر وضع حد فاصل بين تلك المراحل وإنما بحسب تتبـع الأحـداث التاريخيـة. ومـدى تأثيرهـا في الشعـر، ونحن من هذا المنطلق، سنركـز دراستنـا على الأنـواع الثلاثـة الأولـى، وتحديـدا من شعـر المنابـر إلى شعـر البنـاء. وذلك لأن حـدود دراستنـا  المتواضعـة تتلاءم وهذا التقسيم.

1-  شعـر المنابـر:

ولقد اختار الدكتور أبو القاسم سعد الله هذه التسمية، لأن هذا الشعـر كان الهـدف منه الوعـظ والإرشـاد، وتكثـر فيه الكلمات الدينيـة الهادفة إلى الإصلاح، ولا يخلـو كذلك من النبـرة الخطابيـة، وهذه العوامـل كلهـا تجعـل من هذا النـوع من الشعـر أقـرب إلى الخطـب المنبرية. ومادام كذلك فْْأنه صاحب الحركـة الإصلاحيـة منذ نشأتهـا فكـان يلقـى في النـوادي، كنـادي ( الترقي) ، واتخذ من الصحـف الإصلاحيـة مجـالا له ينشـر فيهـا كصحيفـة (الإقـدام ) ثم (المنتقـد) و(الشهاب ) فيما بعـد. ״ ولكـي تـدرك مهمـة هذا الشعـر، يجـب أن تتبع المـدى الذي كانـت عليـه الجزائـر آنذاك من الشعـور بالخيبـة والاستسلام للخرافـات والأوهـام، والعقـد النفسيـة المتراكمـة نتيجـة لعامليـن: الأول الغزو الداخلي الذي كان يشنـه المشعوذون والرجعيون ، والثانـي الغـزو الخارجـي الذي كان يقـوم به أصحاب الأهـواء والمطامع من أذنـاب الاستعمـار..״1.

      ومعلـوم أن أصحـاب هذا النـوع من الشعـر سـوف يعانـون الأمريـن مادامـت فكرتهـم إصلاحيـة وهدفهـم الإبقـاء الجزائـر بكيانهـا الوطنـي فلا الإدمـاج ولا التجنيس يخـدم شعبهـا العربـي المسلـم.                                                                                 

        لقد كانـت موضوعـات شعـر المنابـر- ذات طابـع الإرشـاد والوعـظ- تهـدف إلى التذكيـر بحقيقـة الإنسـان وما سيلاقيـه من مـوت وما لذلـك من أهــوال، وغيرهـا من الموضوعـات التي كانـت ردا صريحــا على الخرافـات والأباطيـل، والشعـوذة المنتشــرة خصوصــا بين سكـان الريـف الجزائـري. ولو بحثنا عن أصحاب هذا النوع من الشعر (شعـر المنابـر) لوجدنـا غالبيتهم إما شيـوخ زوايـا أو سبـق لهـم أن تخرجـوا منها. كـ (محمـد اللقانـي) وغيـره من شيوخ الشعـر الجزائري الكلاسيكـي، ولا نجـزم بأن معظـم هذا الشعـر- إن لم أقـل كلـه- قد خـلا من أغـراض الشعـر العربـي القديـم. لأننـا أمـام  حقيقـة لا يمكـن أن ننكرهـا وقـد أثبتهـا مؤرخـو وأدبـاء الجزائـر، من أن الأمير عبد القادر كان شاعر عصره، وقد طرق جميـع أغـراض الشعـر العربـي القديـم. وإن كان الأمير أديبـا- يمثل مرحلة شعـر المنابـر والأجـراس، نـراه تـارة يعـظ ويرشـد، لأنه أحـد زعمـاء الطريقـة الصوفيـة وهذا واجبـه- وتـارة ثانيـة يستنهـض الهمـم، ويدعـو إلى الجهـاد- و ذلك حـال كـل قائــد- وتـارة أخـرى يتغـزل أو يرثـي أو يستعتـب وما إلى ذلـك..

      ولا بأس أن نستشهـد ببعـض شعـر الأميـر عبـد القـادر تدليـلا على بعض أغـراض الشعـر التي تناولهـا. فمـن شعـر الإخوانيات الذي عـرف به الأمير عبد القادر، كتلك الرسائل الموحشة ببعض قصائـده في الشـوق لأهلـه وقواده. يقول الأمير عبد القادر في الترحيب بصديقه (محمـد الشاذلي القسنطيني):                                                        

أهـلا و سهـلا بالحبيـب القـادم             هذا النهار لدي خيـر مـواسـم.

جـاء السـرور مصباحـا لقدومه             وانـزاح ما قد كان قبل ملازمي

أفديـك بالنفـس النفيسـة زائـرا             من غيـر ما من ولسـت بنـادم 

طالت مساءلتي الركاب تشـوقـا               لجمـال رؤية وجهـه المتعاظم.1

2-    شعــر الأجــراس:

 ذو نزعـة واقعيـة، غير أنه ما يـزال يـدور في فلك الإصـلاح. وهو بطبيعة الحـال نتيجـة لتطـور الحركـة الوطنية في الجزائر، ولعـل التسميـة (الأجـراس) تعكـس طبيعـة الأوضـاع آنـذاك، فالحـرب على الأبـواب ولا بـد أن تقـرع الطبـول. لذلك كان يجـب على الأديـب شاعـرا كان أو ناثـرا- من أن يسايـر الأحـداث ووسيلتـه في ذلك قلمـه، وقـد أجمـع الأدبـاء والمؤرخون الذين تناولـوا الأدب الجزائري بالدراسة والفحـص، أن ما كتـب بيـن سنتـي1925 و1954 شعـرا أو نثـرا، يحمـل بأي شكـل من الأشكال بـذور الثـورة، فلا تجـد كاتبـا أو شاعـرا في هـذه الفتـرة إلا ضمـن أدبـه ما يستنهض الهمـم ويوقـظ المشاعر ويدعـو إلى الثورة. فلقد بلغ السيل الزبى والأوضاع تزداد تعفنا، وان الحدث الأكبر في الجزائر هو ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مايو1931. وبذلك تعززت الحركـة الإصلاحية، وتمت الصحافـة بميـلاد جريـدة (البصائـر)، وتقـوت بمجلـة (الشهـاب)، وخـلال ذلك امتـلأ الجـو الجزائري بالغبـار، وانعقـدت في سمـاء الوطـن كثيـر من السحـب، التي كان منهـا ما ينقشـع سريعـا، ومنهـا ما يـدوم طويـلا... على كل حـال فإن هذه السحـب قـد زادت الشعـب إيمانـا بنفسـه.״1.

       وينعـت مالـك بـن نبـي هذه المرحلـة بالعصـر الذهبـي، الذي بـدأ عـام 1925، و استمـر حتى زوال المؤتمـر الإسلامـي الجزائـري سنـة1936 2 .

      لقـد كان شعــر الأجـراس نابعــا من الـروح المتدفقـة للشعـب الجزائـري، وحيث أن الشعـب كان مندفعـا في غير تخطيـط، وهو ما تعكسه الحيرة التي تطبع شعـراء وكتـاب هذا النـوع من الشعـر، وإن كان شعـر الأجـراس يمثـل مرحلة نهضـة حقيقيـة، إلا أن المؤاخـذ عليه انـه لم يكن  محـدد الأهـداف، أضـف إلى ذلك من أن رؤى الشعـراء والكتـاب كانـت متباينـة فيمـا يخـص طريقـة مواجهة الاستعمـار؛ فمنهـم من آثـر المباشـرة و التحـدي العلنـي، ومنهـم من وجـد له سبـلا أخـرى. ولعـل أبـرز شعـراء هذه المرحلـة؛ محمـد العيـد آل الخليفـة، أحمـد سحنـون، مفـدي زكريـاء،.. وقـد عكـس هـؤلاء الشعـراء صـورة الأوضـاع الجزائرية في أشعارهم؛ فذاك محمد العيد يقول عن الجوع وعسر المعاش:

         فشا الجوع واشتد عسر المعاش     وعادت سنو يوسف الغابرة.                     

        متى يستظـل بظـل النعيـــم     مساكيـن يصلون بالساهرة

        ................................     ............................

        ألا من يجيــر فـؤاد الصغيـر    و يسكـن لوعتـه الثائـرة

        تقـول ارحمـوا ذلتـي يا رجال    أعـزوا كرامتـي الصاغرة1

         وقـد كـان ما قـال صـورة صادقـة عن الواقـع الجزائـري، ولا يصـح إلا مثـل ذلك القـول عن استنهاض الهمـم، وقـد حـذا أحمـد سحنـون حـذو محمـد العيد في الدفـع بالجزائرييـن إلى الثـورة فيقـول:                                     

فيا بني الضاد، يا شعب الجزائر  يا     جند الرسول أرجعوا للضاد ماضيها.

   أقضوا حقوق البلاد، طالما مطـلت      مـنكم،فما غيـركم، والله قـاضيها.

  لا ترضـوا بحيـاة الـذل ويحـكم      فلـيس ديـنكم، والله،  راضــيها.           

تـاريخكم لم تزل مـلأى  صحائفه      بالمـجد يبـهر بالآيات تـالــيها.          

عودوا إليه تـعد أيـام عزتــكم       نضـاحـة بالسنـا غـرا لياليهـا2.

    وقد نظـم رمضـان حمـود قصيـدة موضوعهـا (بمـاذا تحيـا البلاد؟)، تنقـل في صـورة صادقـة الحالـة التي تتملـك معظـم الجزائرييـن؛يقـول:

سألوني بمـاذا تحـيا الـبلاد؟       وبمـاذا تعـيش فيـها العبـاد؟

كأسود طليــقة فـي حماها ،       لا ترى من يسوءها، لا تـقـاد.

وبماذا يقوم شـعب ضعـيف؟       من سقوط و قد دهته الـشـداد.                 

وبماذا يـكون إصلاح قـوم؟        نبـذوا الـدين للوراء وحـادوا.

    هل دواء هـناك؟صفه.فـإنـا       في عذاب يسومنا، هل ضمـاد؟1.

        ولا يمكننا الوقوف على كل الشعـر الذي قيـل في هذه المرحلـة، والذي صاحـب الحركـة الإصلاحية ودعا إلى يقظة الشعب، وقد ازدادت الحركة الوطنية توهجا وزادت معها آمال الجزائريين في الحرية والاستقلال.                                              

3- شعـر البنــاء:

وهو شعـر المرحلة الممتـدة ما بيـن(1936/1945). بدأ بانعقاد المؤتمر الإسلامـي الأول،وانتهى بأحـداث الثـامن ماي 19454.ولكـنه لم يخـل من تلك الاهـتزازات والـدوافع وحمـاس الحـروب،وإن شئـت فـإن شعر هذه المرحلة يصلـح أن يقـال فيـه شعـر التريث والتعـقل وانتظار الفرصة السـانحة للانقضاض علـى المحتـل.

ولـم يـزل فـيه محمد العيـد آل الخليـفة البلـبل المغرد، والوطني الـثائر، يتـربع على عـرش إمـارة الشـعر الجـزائري وذلك لا يعني أن الشعراء فـي تلك الـمرحلة قـد انشـغلوا عن الشـعر بأمـور أخـرى  بل نقـص نشاطهم، وفيـما نعـتقد نحـن على الأقـل- أنهـم رأوا أن لا فـائـدة من الشـعر والكلمة ولا مـناص من الحـرب.

وكـان إلى جـانب محمد العيـد كـل من مفـدي زكـرياء وأحـمد سحنون، وإن كـانا قـد وجـدا من قـبل إلا أن صيتهما ذاع في هذه المرحلة أكثـر من غيرها، ولعل المـلاحظ عن هـذه المرحلة أنها متزامنة مع الحرب العالمية الثانـية والتي تعـد نقـطة تحـول في مسيرة التاريخ. أضـف إلى ذلك انعقاد المؤتمر الإسـلامي في سنة 1936 لـدراسة الأوضـاع الجـزائرية وكيفية التعامل مع المحتل، ״وقد حضرته معـظم الهيـئات الوطنية السياسيـة والديـنية، وإن كان هذا المؤتمر قـد فشـل سياسيا؛ فـإنه كـان نقـطة انطـلاق كبيرة في تاريخ الكفاح الجزائري״1.

     ولأن المؤتمر قـد رسـم معـالم القضـية الجزائرية بوضوح، وأبرز الطريق الصحيح لـكسبها، ولعل هـذا المؤتمر هو النقـطة الأولى التي تتفق فيها الكتل السياسية على اختـلاف مشـاربها وتبـاين مبـادئـها .

      وفـي هـذه المرحـلة الحـرجة من تاريـخ الجـزائر أخـذ الشعر على عاتقه الدعوة إلـى الوحدة الشعبية والوطنية النقية، وإلى التحرر من الماضي البغيض ونسيان الذات فـي سبـيل المثل العلـيا، كمـا أخـذ شعر البناء يواجه العدو بشيء من الصراحة والتسديد.

 ومن مثل هذا الشعر قول أحمد سحنون:

فعـودوا وسووا للكفاح صفـوفكم     و خوضوا إلى تحريركم لجج الخطب

فحسـبكم قـرن وعشرون حجـة     تجـرعتم أثناءها غـصص الـكرب

    كفـى من حماس القول ما قل نفعه    فأذكوا حماس الفعل في الفتية النجب

ولا تكـلوا أمر البـلاد لغيركــم     فإن الذئاب الطلس عاشت على النهب

ثـبوا أيها العرب الكرام على الفـدا    فـإن سـواكم قـد تهـيأ لـلوثـب1

      هـذه الأبـيات على مـا فيها من الاعـتزاز بالوطـنية، فهي لا تخلـو من الحمـاس الشعـري الـذي يدفـع إلى حيـاض الحـرب وهو دعـوة صريحة إلى الثورة وحسم المـوقف فـإن الأمـد قـد طـال والأسـر قـد استطـال، ولـيس أمام الجزائريين إلا الثـورة؛ وقـوله: ״أيها العرب״ تذكـير بالأصول العربية لإثارة الحمية التي تأبى الظـلم وتنـفي عن حمـاها بكـل ما تسـتطيع.

     ويقـول محمد العيد آل الخليفة إزاء تلك الأوضاع المزرية في ظل الظلم والاضطهاد، مستنـجدا بالسلف الصـالح، ليذكر الناشئة بخصال هذا السلف و حاجة الجزائر إليهم:

من فـيكم يحـيي خلالا أربـعا         يحيي الـجزائر بالـخلال الأربع

صدق العتيق وعزة الفاروق في         حلـم ابـن عفان وعلم الأصلع

    أذوي العمائم راجعوا تاريـخكم          من منذ عهد الداي حتى تبـع2.

      وقـد يكـون- بلا شك الشـعر فـي هذه المـرحلة قـد انتـقل نقـلة جديـدة،

وحـدد الأهـداف والغـايات، إذ أصبح الأدب عموما والشـعر خصـوصـا تـحديا صـارخا وإثـارة صاخبة بعـد الحـرب العالمية الثانية، وتعد مرحلة شعر البناء هي المرحلة التـي رتـبت فـيها الأمـور  تمهـيدا لثـورة الفـاتح نوفمبر 54.

     وإذا كـان الشـعر الجزائري بغض النظر عن مراحله قد لعب دورا بارزا وكان صوتا ناطـقا للحـركة الوطنية، ومرآة عـاكسة للأوضاع الجـزائرية؛ السياسـية والثقافية والاجتماعـية والدينـية..

      فمـاذا عن النثر في هذه المرحلة ؟، هل أفل و ترك الساحة للشـعر وحـده يكـابد المحن؟، وهو ما سنعالجه في العنصر الآتي بشكل من الإيجاز.                                                                                                     

     ب- جانـب النثـر:

     والمقصـود بالنثـر هو تلك الأشكال النثـرية المعروفة في الفترة الممتـدة مـا بين(1919/1945)، لأن موضوع دراستنا هذه يتمحور حول هذه المرحلة مـن تـاريخ الجـزائر بالدرجة الأولى، وأحيل القـارئ الكـريم فيما بقي من مراحل هـذا التـاريخ والأشكال النثـرية الأخـرى على كتاب (تطور النثر الجزائري الحديث) لعبد الله ركيبي، والذي يعـرض فيه إلى النثر الجزائري من(1830/1974).بشكل من التفصيـل. ولا أخفـي أنني اعتـمدت عليه في هذا العنصر بالذات. لقد سار النثر إلى جـانب الشـعر في مسيـرة الحركة الوطنية في شقها الأدبي، ولعل الأمير عبد القادر هو الأديـب الذي استـطاع أن يجمع إلـى جـانب أشـعاره بعض المقتطفات النثرية المتمثـلة في خطبه ورسـائله، وهما الخطابة والرسائل- شكلان شائعان في النثر التقلـيدي الجزائري، إلى جـانب شـكل آخر لا يقـل أهمية عنـهما ألا و هو القصص الشعبي.                                                

     فـأما الخطـابة باعتبارها من أقـدم الفنون النثرية عند العرب- فلقد ظهرت في الأدب الجـزائري مع الأميـر عبد القادر، ولكـنها تختلف عن شكلها التقليدي المعتاد، إذ تخلـصت من الصنعة اللفظية وأصبحت تطرق المواضيع بشكل من المباشرة.

     وذلك ״أن فترة الاحتـلال كانـت تسـاعد على هـذا اللـون من النثـر، لأن الصـراع بين الجـزائر والاستعمار الفـرنسي بلـغ ذروته في الثلاثيـنات والأربعيـنات من القرن الماضـي، مما أسهم في أن يتغيـر أسلوب الخطب ومضمونها أيضا״1.

      كانـت وظيفة الخطـابة وسائر الفنون النثرية والشعرية الإبـلاغ عن الأوضاع المتردية في الجزائر إلى جـانب الدفع إلى اليقـظة والحذر، ومن ثمـة شحـن النفـوس الثائرة من أبناء الجـزائر بقـوى داخلية ترفض الظلم وتأبى الضيم ولا ترى سبيلا للخلاص منهما إلا الثورة.

      وخرجـت الخطـابة إذا من التعبيـر عن الموضوعات المستهلكة المكررة التي لا تأتي إلا بالمـلل والسأم، بل إن جـانب التنفيـر فيـها كـان أكـثر من جـانب الجذب إلى الموضوعات التي كانت تصب في قالب القضية الـوطنية أو العقيدة الروحية، وما خطـب الأميـر عبد القادر إلا دليل على ذلك، فها هو ذا في إحدى خطبه يوضح موقفه من السلم والحرب، وذلك بعـد أن نقـض الأعداء معاهدة بينهما، فلا يجد سوى هذا الأسلـوب الحماسي الذي يحث على القتال طريقا لاستنـهاض الهمم و بعث النخوة في النفـوس؛ إذ يقول:״..أما بعد ؛فلا يخفى أن الله تعالى قال في كتابه المجيد(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة)، و قال (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)״1.  

      وإنّـك ترى أن الخطـابة لا تـزال تحوي جـانب الدين فيها والمتمثـل في الاستشهاد بالآيـات القرآنية، ولا غرابة أن هذه الآيات ذات وقع مؤثر، إذ تعطي صبغة الشرعية المطلقـة للجهـاد ضد الأعداء. بل إنه من المحفـزات ما دام الموت في ساحة الوغى استشهادا.

     وقـد قـويت شوكة الخطـابة بميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ذات الـنزعة الإصلاحية، و التي تستدعي بالضرورة فن الخطابة أداة تعبير، لما لها من تأثيـر، و يأتي في مقـدمة خطباء الإصلاح الذين اشتهروا بالفصاحة والبيان ؛الشيخ ״عبـد الحميد ابـن باديس״ و״ الإبـراهيمي״ و "الطيـب العقـبي״ و״ أحمد توفيق المدني״..وغيرهم ممن بقـيت آثارهم مسجلة في صحف جمعية العلماء مثــــل:الشهاب، البصائر، والصراط والشريعة وغيرها من المصادر، ولم يقـتصر فـن الخطـابة على الأمـير عبد القـادر أو رجال الإصلاح فقط، بل إن الضرورة دفعـت بزعماء الأحزاب السياسيـة إلى اعتماد الخطـابة في تعابـيرهم وخطـاباتـهم إلى الجماهـير، كما فعل حزب الشـعب الجزائري، أحـد هذه الأحزاب التي كان زعماؤها يرتجلون الخطـب لدفع الحماس الجماهيري إلى الثورة، أو على الأقل إلى اليقظة ولأن طريقتـهم المبنية على المواجهة والصراحة في مجـابهة المستعمر كـانت سببـا في مصادرة صحفهم، ومنع تسجيل هذه الخطب أو نشرها، والملفـت للانتباه في كل هذا  أن الخطـابة لم تكن تسـير على نمط واحد؛ وبوتيرة واحدة؛ بين الإصلاحيين وحزب الشـعب، لأن زعماء حزب الشعب الجزائري قد اعتمدوا إما الفرنسية، لشدة تأثيرها في المستعمر، لغة تعبير خطابية، أو العامية لقربها إلى فهم عامة الناس. أما الإصلاحيون فكانت لغتهم العربية الفصحى، موشحة بآيـات قرآنية أو أحاديث نبوية، ״ فالطابع العـام الذي تتسـم به خطب المصلحين هو طابع الدين والوعظ والتـركيز على فكرة الإحياء والرجوع إلى الماضي والدعوة إلى النهوض واليقظة، بينما خطب رجال حزب الشعب؛ يغلـب عليها طابع السياسـة والحماسة والانفعال القوي والهجـوم علـى الاستعمار وأعوانه والدعوة المباشرة إلى النضال من أجل الاستقلال״1.                                                

       ومن الخطـأ أن يـظن أحـد أن علماء الإصلاح لم تخرج خطبـهم عن الإطـار الديني والطـابع السلفي، ولم يعـالجوا القضايا الوطنـية، بل إنـهم عـالجـوا الأوضـاع الاجتمـاعية وغيرها ولكن بالرجوع إلى الأصول وبالاستنـاد إلى مصـادر التشريع، المتمثـلة في الكتـاب والسنة..كما احتكموا إلى الواقع بنظرة اجتهـادية في أكثـر من مناسبـة، فـهذا ابن باديس يلقـي خطبة في سنة 1937، يشيـد بالعـروبة والعربية قائـلا:״..أما بعـد؛ فحياكم الله أبناء العـروبة والإسـلام، وأنصـار العلم والفضيلة، حـوربت فـيكم العـروبة حتى ظن أن قـد مـات منكم عرقها. ومسخ فـيكم نطـقها، فجئـتم بعد قرن تصدح بلابلـكم بأشعارها، فتثـيـر الشـعور والمشـاعر، وتهـدر خطبـاؤكم بشقـاشقـها فتدك الحصون والمعاقل، ويهز كتابـكم أقلامها فتصيب الكلى والمفـاصل״1.

      كـما أن ابن باديس مافتـئ  يحـث رجـال الإصـلاح على مواجـهة الاستعمار، وقـد يعـد من باب التقصير أن نتحـدث عن فـن الخطابة دون أن نشيـر إلى أحـد أعـلامها ״الشيخ محمد البشير الإبراهيمي״، وما صـرفنا عن ذكـر خطبـه أو بعضـها ما عقـدناه في هـذا الفصل من التـزام مبـدإ الإيجاز والاختصـار حتـى لا تخـرج الـدراسة عن إطـارها المحـدد لـها سلفا، و علنا نعـذر في ذلك.                                           

      لقـد أدى فـن الخطـابة ما ألقـي على عاتـقه من مهمة الإبـلاغ والحـث على المقـاومة والنضـال. وقـد سـاعد على ذلك عامل قـد لا يتـوفر في ما بقي من الفنون الأخرى، إلا وهو عامـل المبـاشرة والمـواجهة للجمهـور المعنـي الأول بالأوضـاع ونقصـد بذلك أن الخطـابة تلقى مبـاشرة إلى الشـعب .

 



1 - نور سلمان، الأدب الجزائري في رحاب الرفض و التحرير. ص 64 .

1 - م،س. ص80.

1 - م،س. ص 85.

1 - نجاح العطار وحنا مينه. أدب الحرب. دمشق. 1976. ط1.ص11.

2 - م،س. ص12.

1يحي الشيخ صالح. شعر الثورة عند مفدي زكاريا. ص 34.

1 - م،س. ص 35.

2 - محمد الطمار. تاريخ الأدب الجزائري الحديث. ص 225.

1م،س. ص 225.

2سعد اللـه أبو القاسم، دراسات في الأدب الجزائري الحديث. ص 31

 

1 - م،س ص 31.ينظر:- محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، اتجاهاته وخصائصه الفنية.دار الغرب الإسلامي،بيروت1985.

                               -عبد الملك مرتاض، الأدب الجزائري القديم،دراسة في الجذور، دار هومة، الجزائر2000.

1 - م،س. ص 35.

1م،س. ص 36.

1 - محمد الطمار . تاريخ الأدب الجزائري.. ص 273.

1 - سعد اللـه أبو القاسم. دراسات في الأدب الجزائري الحديث. ص 38.

2 - م،س. ص38.

1 - صالح خرفـي. الشعر الجزائري الحديث.. ص 155.

2 - سحنون أحمد. ديوان أحمد  سحنون.الشركة الوطنية للنشر و التوزيع . الجزائر.1975.ص .27.26 .

1 - صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث.ص 137.

1 - سعد الله.أبو القاسم. دراسات في الأدب الجزائري الحديث. ص41.

 

1سحنون أحمد . الديوان.ص 130-131.

2-  صالح خرفي. الشعر الجزائري الحديث. ص 11.

1 - عبد الله ركيبي  تطور النثر الجزائري الحديث. المؤسسة الوطنية للكتاب. الجزائر. 1983.ص 14.

1 -  م،س. ص15.

1 - عبد الله ركيبي. طور النثر الجزائري الحديث. ص 24.

1 - م،س. ص26. أنظر: مجلة المصادر، العدد06/ مارس 2002. ص111.